نحو تأسيس كفاية لغوية وحضارية عليا
إن تعليم اللغة العربية لأبنائها الناطقين بها يختلف جذرياً في فلسفته ومنهجيته وأهدافه عن تعليمها للناطقين بغيرها. فبينما يسعى الثاني إلى تحقيق "الكفاية الاتصالية" ومحو الأمية اللغوية، يهدف الأول إلى "التمكين اللغوي" و"التأصيل الهوياتي" و"بناء العقل الناقد".
إن الوثيقة المرجعية، التي تمثل منهج "الفيصل"، تقدم مادة تراثية غنية ومتنوعة تمتد من النحو الوظيفي إلى البلاغة والنقد والأدب. ومع ذلك، فإن التعامل مع هذه المادة في سياق تعليمي حديث للناطقين بالعربية يتطلب تجاوز المقاربات التقليدية القائمة على الحفظ والتلقين، إلى مقاربات تفكيكية وتحليلية تربط التراث بالواقع المعاصر، وتحول اللغة من "مادة دراسية" إلى "أداة تفكير" ووسيلة للسيادة المعرفية.
يستعرض هذا التقرير البحثي الموسع تحليلاً نقدياً وتطويرياً شاملاً لمحتويات المنهج، مقدماً رؤية استراتيجية لتعميق المحتوى ورفع سقف التوقعات التعليمية بما يتناسب مع الملكة اللغوية الكامنة لدى المتعلم العربي. يعتمد التقرير على استقراء النصوص الواردة في المنهج (الآجرومية، مثلثات قطرب، الخطب الجاهلية والإسلامية، المناظرات الأدبية، الشعر، والأمثال)، ويقترح آليات بيداغوجية لتحويل هذه النصوص إلى منصات انطلاق لفهم عميق للذات والعالم.
يفتتح المنهج دروسه بمتن "الآجرومية" وتعريف الكلام عند النحويين، حيث يورد التعريف الكلاسيكي: "الكلام: هو اللفظ المركب المفيد بالوضع". بالنسبة للمتعلم الناطق بالعربية، لا ينبغي أن يتوقف الدرس عند حدود حفظ هذه الشروط الأربعة، بل يجب أن ينتقل إلى فهم "فلسفة اللغة" الكامنة وراءها. إن النص يشير إلى أن "صوت الطبل" لا يسمى لفظاً لأنه لا يشتمل على حروف هجائية، وأن "الإشارة والكتابة" لا تسمى كلاماً عند النحاة. هذا التمييز الدقيق يفتح الباب لمناقشة عميقة حول الفرق بين "اللغة" بمفهومها اللساني الحديث (كأي نظام دال) و"الكلام" بمفهومه النحوي التراثي الذي يركز على المشافهة والإعراب.
إن التطوير المقترح لهذا القسم يستلزم دمج البعد التاريخي والاجتماعي للنحو. فابن آجروم، محمد بن محمد الصنهاجي الفاسي، الذي ألف متنه تجاه الكعبة الشريفة طلباً للبركة، لم يكن يكتب قواعد جافة، بل كان يضع "دستوراً" لضبط اللسان العربي الذي هو وعاء الوحي. يجب توجيه الطالب الناطق بالعربية للبحث في لماذا اشترط النحاة "القصد" (المفهوم ضمناً في الإفادة والوضع)، وكيف يميز العربي بين "التركيب المفيد" (قام زيد) و"التركيب غير المفيد" (إن قام زيد...).
يقدم المنهج أقسام الإعراب الأربعة: الرفع، النصب، الخفض، والجزم، مع ربط كل قسم بنوع الكلمة (اسم أو فعل). المعالجة التقليدية لهذه الأقسام غالباً ما تكون آلية. التطوير الاستراتيجي هنا يكمن في تدريس الإعراب باعتباره "نظاماً دلالياً" وليس مجرد حركات شكلية.
للناطق بالعربية، يجب طرح السؤال الجوهري: لماذا يرفع الفاعل وينصب المفعول؟ وكيف يغير الإعراب المعنى في الجمل الملتبسة؟ يمكن الاستفادة من الجدول التالي لتوضيح كيفية نقل تدريس الإعراب من المستوى الوصفي (الموجود في المنهج الحالي) إلى المستوى الوظيفي (المقترح للتطوير):
| المفهوم النحوي الوارد في المنهج | طريقة العرض التقليدية | التطوير المقترح للناطقين بالعربية | الأثر التعليمي المرجو |
|---|---|---|---|
| الرفع | علامة تلحق المبتدأ والفاعل (مثل: محمدٌ جميل) | دراسة "العمدة" في الجملة العربية. لماذا استحق الفاعل الضمة (الحركة الأقوى)؟ | فهم مركزية الفاعل والمسند إليه في العقل العربي. |
| النصب | علامة المفعول به واسم إن (مثل: إن محمداً...) | دراسة "الفضلات" والقيود. كيف يحدد النصب حدود الفعل وتأثيره؟ | القدرة على التوسع في الجملة وتدقيق المعاني (الحال، التمييز). |
| الخفض (الجر) | خاص بالأسماء (مثل: في البيتِ) | علاقة "الملكية" و"التبعيض" و"الظرفية". لماذا لا يجر الفعل؟ | إدراك خفة الأسماء وثباتها مقابل ثقل الأفعال وتجددها. |
| الجزم | خاص للأفعال (مثل: لم يتعلمْ) | "القطع" الزمني. كيف يقطع الجزم استمرار الفعل ويحوله للماضي (مع لم)؟ | فهم فلسفة الزمن في اللغة العربية وعلاقتها بالعمل النحوي. |
تعتمد التمارين الحالية في الوثيقة على نمط "صح/خطأ" أو "صل العمود أ بالعمود ب" (مثال: هل يعد صوت الطبل كلاماً؟). هذه التمارين تقيس التذكر فقط. المنهج المطور يجب أن يتضمن أنشطة تحليلية، مثل:
يخصص المنهج مساحة جيدة لـ "مثلثات قطرب"، وهي كلمات يتغير معناها بتغير حركة فائها (الفتحة، الكسرة، الضمة). وردت أمثلة مثل: (الكَلام/الكِلام/الكُلام)، (الجَد/الجِد/الجُد)، (السَّلام/السِّلام/السُّلام). هذا المبحث يعد مدخلاً مثالياً لتعليم الناطقين بالعربية "فقه اللغة" و "علم الأصوات الدلالي".
يشير النص إلى أن "تغيير صوت الحركة يغير المعنى رغم بقاء الشكل الأساسي"، ويشبه ذلك بـ "وجه الإنسان الذي تتغير تعبيراته". هذا التشبيه البليغ يجب أن يكون أساساً لاستراتيجية تعليمية تركز على "الاقتصاد اللغوي" في العربية، حيث يمكن لجذر واحد أن يولد عشرات المعاني بتغييرات صوتية طفيفة.
بدلاً من مجرد حفظ معاني الكلمات كما هو سائد في التمارين الحالية (أعد كتابة الكلمة مع معناها)، يقترح التقرير المنهجيات التالية:
يورد المنهج أمثلة إضافية مثل (دَعوة/دِعوة/دُعوة) و(عَرف/عِرف/عُرف) و(سَبت/سِبت/سُبت). يجب استثمار هذه الأمثلة لربطها بالاستخدام القرآني والأدبي. على سبيل المثال، التفريق بين "دَعوة" (المرة من الدعاء) و"دِعوة" (ادعاء النسب) يعالج قضايا اجتماعية وتاريخية يمكن مناقشتها في الفصل، مما يربط الدرس اللغوي بالقيم الاجتماعية (حفظ الأنساب، الصدق).
تتضمن الوثيقة خطباً مفصلية في تاريخ الأدب العربي، منها خطبة قس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ، وخطبة هاني بن قبيصة يوم ذي قار. هذه النصوص ليست مجرد "نثر فني"، بل هي وثائق تاريخية واجتماعية تعكس رؤية العربي للكون والحياة والموت والحرب.
يقدم المنهج وصايا لـ "رياح بن ربيعة"، و"عمرو بن الغوث"، و"أمامة بنت الحارث". هذه النصوص تمثل "دستور الأخلاق" العربي.
يشير المنهج إلى أن السجع "مأخوذ من سجع الحمام" وأنه كان له منزلة عالية عند العرب. يجب تعليم الطلاب الناطقين بالعربية أن السجع ليس مجرد زينة صوتية، بل هو "تقنية حفظ" (Mnemonic Device) ساعدت الأمة الأمية على حفظ تاريخها وحكمتها. التمارين يجب أن تشمل محاولة الطلاب كتابة نصوص مسجوعة للتعبير عن قضايا حديثة، مما يحيي هذا الفن في سياق وظيفي.
يحتوي المنهج على مناظرات بديعة: (السيف والقلم، الليل والنهار، العلم والجهل، الأرض والسماء). هذه المناظرات تعكس ثقافة "الحوار" و"قبول الآخر" (حتى لو كان الآخر خصماً افتراضياً) في الحضارة العربية. يشير النص إلى أن الهدف من المناظرة ليس الغلبة وإنما "الوصول إلى الحقيقة". هذا المبدأ الأخلاقي يجب أن يكون محور الدرس.
يمكن استخدام الجدول التالي لتحليل استراتيجيات الحجاج في المناظرات الواردة في المنهج:
| المناظرة | الطرف الأول (الحجة الرئيسية) | الطرف الثاني (الحجة الرئيسية) | الاستراتيجية البلاغية المهيمنة | القيمة المستفادة |
|---|---|---|---|---|
| السيف والقلم | القلم: أداة العلم، القسم الإلهي، تدوين الشرائع | السيف: حامي الحق، ناصر الدين، القوة التنفيذية | الاستشهاد بالقرآن والسجع المكثف | التكامل بين "القوة الناعمة" و"القوة الصلبة". |
| الليل والنهار | الليل: السكون، الستر، الخلوة مع الله (العبادة) | النهار: السعي، الرزق، الوضوح، النشاط | الجناس (خلق/خلق، سراج/وهاج) | التوازن البيئي والروحي في حياة الإنسان. |
| العلم والجهل | العلم: ميراث الأنبياء، النور، الرفعة | الجهل: الانتشار، القوة الغاشمة (الكثرة)، الراحة | التضاد والمفارقة الساخرة | قيمة المعرفة كسلاح حضاري ضد الفوضى. |
| الأرض والسماء | الأرض: مستقر البشر، الكعبة، الأنبياء | السماء: العلو، الملائكة، الجنة، الطهارة | الفخر بالخصائص والمكانة | وحدة الكون وتكامل أجزائه في خدمة الخالق. |
يتم تقسيم الطلاب وتمثيل أدوار (السيف/القلم)، مع (Debate Club). يقترح التقرير تحويل هذه النصوص إلى نشاط صفي تفاعلي لتحديث الحجج لتناسب العصر الرقمي (هل "الكيبورد" هو قلم العصر؟ وهل "الهجمات السيبرانية" هي سيوفه؟). هذا يربط التراث بالمستقبل.
يشتمل المنهج على قصائد لشعراء يمثلون مدارس مختلفة: الإمام الشافعي (شعر الحكمة والزهد)، جرير (شعر الرثاء والعاطفة)، أبو العلاء المعري (شعر الفخر الفلسفي)، عمران بن حطان (شعر المذاهب السياسية)، وزهير بن أبي سلمى (شعر الحكمة الجاهلية).
قصيدة عمران بن حطان (من الخوارج) "يا ضربة من تقي..." التي يمدح فيها قاتل علي بن أبي طالب (رغم حذف المنهج للبيت المثير للجدل والتركيز على أبيات أخرى في الزهد والموت)، وقصيدته في بناته "أفي السلم أعيار..."، تفتح الباب لمناقشة "أدب الفرق" وكيف وظفت الأحزاب السياسية في الإسلام الشعر كأداة إعلامية. هذا ينمي الوعي التاريخي والسياسي لدى الطالب.
في معلقة زهير بن أبي سلمى "رأيت المنايا خبط عشواء"، يتم تشخيص الموت كناقة عمياء تخبط في الظلام. هذه الصورة الكلية المركبة تحتاج إلى تفكيك: لماذا الناقة؟ ولماذا العشواء؟ وكيف تعكس هذه الصورة قلق الإنسان الجاهلي من الموت العبثي؟ تمارين "إعادة تخيل" الصورة أو رسمها تساعد في تذوق الشعر.
الأمثال الواردة مثل "على أهلها جنت براقش"، "رجع بخفي حنين"، "مكره أخاك لا بطل"، "أبصر من زرقاء اليمامة"، "وافق شن طبقة"، هي قصص مكثفة تختزل تجارب شعوب.
التطوير المقترح يتضمن تدريب الطالب على "استدعاء المثل" في المواقف الحديثة. متى نقول "على أهلها جنت براقش" في تحليل سياسي؟ ومتى نستخدم "رجع بخفي حنين" في سياق اقتصادي؟ هذا يحول المثل من "تراث جامد" إلى "أداة تواصلية حية".
لضمان تحقيق أهداف المنهج المطور، يجب تجاوز طرق التقييم الواردة في الوثيقة (اختيار من متعدد، صح وخطأ، ملء الفراغات) واعتماد أدوات تقييم تقيس المهارات العليا.
| الوحدة الدراسية | النشاط التقليدي في المنهج | النشاط الإثرائي المقترح (High-Impact Practice) | المهارة المستهدفة |
|---|---|---|---|
| النحو (الكلام) | صل الكلمة بتعريفها، حدد صحة الجملة | مشروع "المدقق اللغوي": رصد أخطاء تركيبية في إعلانات الشوارع أو الصحف وتصحيحها مع التعليل النحوي. | التطبيق، النقد، الملاحظة |
| المثلثات | ضع الحركة المناسبة للكلمة | تحدي "النظم": كتابة بيتين من الشعر يستخدمان مثلثاً لغوياً جديداً (من خارج المنهج) مع توضيح المعنى. | الإبداع، البحث المعجمي |
| الخطابة | استخرج معاني المفردات، صح/خطأ | محاكاة "سوق عكاظ": أداء خطبة قس بن ساعدة أمام الجمهور، أو كتابة خطبة حديثة بأسلوب السجع الجاهلي. | الإلقاء، التقمص، الأداء الصوتي |
| المناظرة | ترتيب الحجج، تحديد الفائز | المناظرة المعاصرة: عقد مناظرة حول (الذكاء الاصطناعي vs العقل البشري) باستخدام أسلوب "الليل والنهار" في البلاغة. | الحجاج، الإقناع، سرعة البديهة |
| الشعر | تحديد موضوع الأبيات، معاني الكلمات | المعارضة الشعرية: محاولة كتابة أبيات على وزن وقافية قصيدة المعري أو الشافعي في موضوع حديث. | العروض، التذوق الموسيقي |
| الأمثال | اختر المعنى الصحيح للمثل | الأمثال المقارنة: البحث عن نظائر للأمثال العربية في الثقافات العالمية (الإنجليزية/الفرنسية) أو في اللهجات المحلية. | الوعي الثقافي المقارن |
إن منهج "الفيصل" في نسخته الحالية يمثل قاعدة صلبة ومادة خاماً ممتازة للانطلاق، حيث يجمع بين عيون التراث العربي في مختلف الفنون. ومع ذلك، فإن الاكتفاء بتقديمه في قالب تقليدي يركز على "المعرفة التقريرية" (Declarative Knowledge) قد يهدر فرصة عظيمة لبناء "الشخصية اللغوية" للطالب العربي.
تكمن القوة في التطوير المقترح في تحويل التركيز من "اللغة كمادة للحفظ" إلى "اللغة كنسق ثقافي وأداة للتفكير". من خلال تفعيل النحو الوظيفي الذي يربط المبنى بالمعنى، وتعميق التحليل البلاغي للنصوص ليكشف عن استراتيجيات الإقناع والتأثير، وربط التراث بالحاضر عبر أنشطة المحاكاة والنقد، يمكن لهذا المنهج أن يسهم في تخريج جيل لا يتقن العربية فحسب، بل يعتز بها، ويفكر من خلالها، ويبدع في آفاقها.